جريدة الوطن السعوديــة،،،،
صفحة 1 من اصل 1
جريدة الوطن السعوديــة،،،،
"الراب" السعودي:
ومعظم النار مِن مستصغر الشررِ بداية القول.. إن هذا المقال يقترح حواراً عاماً أرجو أن ينخرط فيه علماء وباحثو الاجتماع، والقيادات التربوية، ودعاة الدين الإنسانيون، والمستثمرون في الإعلام، والمتنفذون الرسميون في وضع الأهداف التعليمية والإعلامية والثقافية، وكافة الآباء والأمهات، وكل القطاعات المشتغلة بالشأن العام في البلد، وكل غيور على شباب ومقدرات الوطن وثوابت الهوية الإسلامية والوحدة الوطنية.. ومعهم جميعاً، أقراني الشباب.
أثار المقطع الغنائي الأخير، الذي تتداوله مواقع الإنترنت وتقنيات البلوتوث، والصادر بطريقة موسيقى "الراب" عن مجموعة شباب سعوديين يرمزون إلى أنفسهم بـ(وكر العصفور)، وحمل في كلماته سيلاً من الشتائم والقذاعات ضد شعوب شقيقة بشكل يندى له الجبين، موجة غضب عارمة، لحقتها ردود غنائية - إلكترونية مثيلة نالت هي الأخرى - للأسف - من شعبنا السعودي الكريم.
صحيح أن الروابط والصلات الحضارية والتاريخية والثقافية والشعبية بين الشعوب العربية أصلب وأمتن من أن تخدشها بضعة أغاني صبيانية، ولكن قيل إن معظم النار من مستصغر الشرر، خصوصاً أن القضية لا تقف عند أطراف ذلك التراشق اللفظي في تلك الحادثة بعينها، بل إنها تتجاوزها إلى ما هو أعمق غوراً.
حين أجريت تحقيقاً صحفياً يتقصى خلفية هؤلاء الشباب محاولة في فهم دوافع تجرئهم، خرجت بجملة من الحقائق المؤلمة. فجأة انفتحت أمامي بوابة ما كان مجهولاً ومستغلقاً من مشهد لثقافة هامشية مكتملة الأطر، ممن يطلقون على أنفسهم بشباب "الراب" أو "الهيب هوب" السعودي - وهو مشهد له رموزه وفرقه وبروتوكولاته ومناسباته.. وأيضا له شوارده وعداواته.. كما له إعلامه وقنواته في التعبير والعرض والاستعراض أما على مواقع التحميل بالإنترنت كاليوتيوب أو خلال حفلات منبرية خاصة تقام في مدينة جدة، وأخيراً باتت له برامجه الرسمية كما حدث مع قناة (إم تي في-العربية) عبر برنامج (هيب هوبنا) الذي استثمرته الفرق المحلية للبروز والمنافسة.
و"الراب" لمن لا يعلم هو نمط غنائي ينتظم مؤدوه جملاً ذات قافية لفظية شبيهة، يؤدَى بطريقة سريعة(سويت فاهم يارمة)، برز تاريخياً لدى المجموعات العرقية السمراء المضطهدة في أمريكا، ثم صار، مع موجة العولمة الثقافية، نمطاً ثقافياً استهلاكياً عاماً.
فهمت أن (وكر العصفور) هم أحد أعلام المشهد في تكونه من مجموعة من شباب العوائل الحضرية يتزعمهم رأفت وهشام، فيما أن ألدّ خصومهم هم فريق (شباب الغربية) (اسمهم عيال الغربية يااهبل)بقيادة شخص يرمز إلى نفسه باسم (كلاش) وهو صاحب الشعار الشهير "غامد والقلب جامد"، فيما يُعرف رصيفه باسم (عبادي) وغالبية هذا الفريق من أبناء قبائل جبال الحجاز النازح جيل آبائهم إلى المدينة.
وأصل الخصومة بدأ حين تجرأ (كلاش) بمقطع (راب) تطاول فيه على أبناء المدينة هازئاً بأنسابهم وأنماطهم الاجتماعية، فرد عليه فريق (وكر العصفور) بشتائم شعبوية مثيلة تنتقص من فئته الاجتماعية وتنظر إليها نظرة دونية!.. على أن تلك العداوة ذات الجذر النفسي (والتصورات المغالطة بطبيعة الحال) قد استمرت سجالاً، حتى صار (كلاش) يجرد خصومه من أصلانتيهم الوطنية كونهم أبناء عوائل لا قبائل، فبات ينعتهم - كما في عاميتنا المغلوطة - بأصحاب أصول غير سعودية.. على أن "عصافير الوكر" تلقفوا ذلك الاستفزاز بضيق فردوا بمقطع "راب" يحتفي بالمنتخب السعودي الكروي يستعلنون فيه أصلانية هويتهم الوطنية أولاً، ومن ثَم، بأغنية مقذعة في حق من وُصموا بالانتماء لهم، لربما تبرءاً من الدعوى المزعومة!.. وهي ذات الأغنية/القضية التي نبّهت على وجود كل هذا العالم السفلي.
والواقع أن أغلب جولات تلك السجالات الغنائية موثقة على موقع اليوتوب، بكل سقطاتها وشتائمها وعنفها اللفظي - وسفالات التعليقات المكتوبة عليها - وفي تجرئها على كافة الروابط الأسرية والأخلاقية، وفي مسها الوحدة الوطنية والوحدة الثقافية وتعديها على قضية الذوق العام والألفاظ الحميدة. وبقدر ما وفرت الوسائط المعرفية الحديثة، فرصا شائعة لأطراف الثقافة الشعبية والهامشية بالتعبير وإبراز المكبوت الاجتماعي والثقافي، بقدر ما أفسحت المجال واسعاً لاستحكامات الفوضى وأمارات الانحطاط.
إنه زمن الفوضى الكاسحة.. الذي تتوارى فيه معايير الفضيلة والمروؤة وتذوب فيه أية وحدة ثقافية وتنحل معه أية رابطة جمعية، وتخبو فيه الحساسية الأخلاقية والجمالية إلى حد الفناء، بل وتفقد فيه الحقائق العلمية سلطتها القيمية إزاء المد الهامشي والشعبوي المغالط والردئ.
إن الأمر شديد الخطورة.. هذه ثقافة صاعدة لا تغني للحب وللحياة أو للوله والشوق وباقي أحاسيس الرومانسية الإنسانية.. بل إنها تعبر عن خطاب يتباهى بالتمرد القيمي وبالرذيلة، ويدعو في تمظهراته القلقة إلى العنف والقطيعة الفئوية أو الطبقية في تعزيزه من شأن القيم التجزيئية والتشرذمية.. إنه خطاب يصدر عن مركبات نقص نفسية وترسبات اجتماعية مغلوطة لا تذعن لأية مرجعية أو ضوابط فنية أو أخلاقية أو ثقافية، فتبدو متفلتة في جوهرها وتجلياتها.
وما الحل من هُنا ؟.. إنه لم يعد من المقبول تجاهل تلك الظواهر الاجتماعية الصاعدة، ولم يعد من اللائق إرجاء إخضاعها للعلمي والمعرفي. بالطبع سيجرّم الوعي التربوي والاجتماعي التقليدي تلك الممارسات المَرَضِية، ناهيك عن الخطاب الوعظي السائد الذي سيعد أؤلئك الشباب في عداد المارقين-المستلبين الخ.. ولن تخرج حلول الأطراف الرسمية على ضرورة إطلاق القبضة الحديدية على محركات هذه الثقافة الناشئة.. ولكن فلنقولها بصدق، إن كل ذلك لم يعد يجدي.
إن ما لاحظته مثلاً أن هذا الشباب، موهوب ويملك مقدمات الإبداع والنبوغ الفني، ولكنه في أغلب الأحيان لا يجد دعماً وقنوات رسمية يفرغ فيها مكنون ذاته، فيلجأ لمثل هذه الأنماط البديلة القلقة. وفي اعتقادي أن الحل الملائم، يكمن في إنشاء مؤسسة إعلامية كبرى ترعى المواهب الفنية وتصقلها بما يثري المجتمع والفن. مشروع استثماري ضخم يفتح آفاقاً للشباب المبدع في مجالات فنية عدة، تكون له ماكينته الإعلامية الضخمة من إنتاج وتوزيع وتسويق وعرض تلفزيوني وباقي عناصر الرعاية الفنية.
إن انخراط الشباب ضمن مظلة مؤسسية، يمنحهم الاعتراف ويمدهم بالخبرات والمعارف الملائمة ويصقل نماذجهم لتكون أكثر طليعية وملاءمة، وحتماً، سيعمل على تقنين مسالكهم وتصوراتهم وأعمالهم الفنية.
إن لذلك شواهد داعمة.. فصاحبنا (كلاش) له فيديو على اليوتوب تحت عنوان (حفلة جدة)، ويظهر فيه على المسرح أمام حشد جماهيري عام، بدا فيه أكثر تلطفاً في انتقاء الألفاظ، وفي التعبير عن مضمون إيجابي يحتفي بالانتماء لمدينة جدة واصفاً شبابها بأهل المروؤات. بل إنه افتتح وصلته مازحاً: "بدون شتائم.. اليوم" !.. لقد أجبرته فرصة الأداء في مكان عام على احترام النموذج الثقافي إلى حد ما.
وإن كانت قناة (ام تي في-العربية) الجديدة قد أفصحت عن نيات لتبني ذلك الدور.. فبرنامج (هب هوبنا) الذي ينتقي المواهب المحلية في البلدان العربية لقي صدىً وتجاوباً من لدن الشباب. من مقر القناة في منطقة القوز بدبي، أخبرتني ذات مرة رشا الإمام مديرة الإنتاج في القناة، "أن الأمر ليس خافياً أننا نستهدف الشباب والسوق السعودي في المقام الأول"، ورشا بالمناسبة مُنتجَة سعودية من مدينة جدة. بل إن عددا لا بأس به من منسوبي القناة العاملين في مقرها الرئيس هم من الشباب والفتيات السعوديين، بدءاً من مدير التسويق، إلى مصممي الجرافكس ومقدمي البرامج.
وفي تقرير الصحفية فايزة أمبا بالواشنطن بوست (راجع عدد 22 فبراير 2008) عن قصة ما أسمته الولادة المتعسرة للهب هوب السعودي أفردت فيه آراء فريق (Dark2Men) السعودي الفائز في مسابقة برنامج (هب هوبنا). يقول هاني زين، 27 سنة أحد أعضاء الفريق، إنهم أخيراً، وبعد سنوات من البحث عن الاعتراف الاجتماعي والمؤسساتي، "أبصروا النور".
أعتقد أنه آن الأوان إلى أن نتسامح إزاء مظاهر اجتماعية كانت مستهجنة حتى وقت سابق قريب، بغية تقنينها وضبطها أخلاقياً وجمالياً، هذا كي لا يكتسحنا الردئ والناكر والمغالط والمنفلت من أي ضابط. أن يمارس الشباب أنشطتهم الغنائية والفنية "في النور" وأمام أعيننا خير من طمأنينة التجاهل الزائفة، التي لن تدفعهم سوى للتسرب إلى مخالب عالم سفلي يغيب فيه أي ضابط أو أي مرجع.
لقد كنت في السابق ضد مثل هذا المشروع الإعلامي الاستلابي، كونه يحوّل عقول الشباب إلى عقول أداتية مبسّطة غير نقدية.. ولكني مع بروز عينات (كلاش) و(وكر العصفور) أجد أن الحاجة تدعو ملياً إلى الرعاية المؤسساتية القادرة على بلورة النموذج الساعي لإنتاج أعمال ايجابية وجمالية ووجدانية - تتقصى التوازن في الطرح كأضعف الإيمان.
سيجد البعض ثقلاً بالغاً في تقبل هذا العلاج.. ولكن ألا يستحيل الشفاء غالباً دون جرعة دواء تحتوي على مقدار مقنن من السموم؟! إن العبرة بالغايات النبيلة لا بالتركيبة الظاهرة. في تقرير الواشنطن بوست يحكي ثامر فرحان عن استياء آبائهم أول مرة عند ظهورهم وهم يغنون "الراب"على شاشة التلفزيون، وكيف (فركّش) أهل خطيبته خطوبته بعد "عار" ظهوره الرسمي على الشاشة، ولكن قبل أن يقوم برحلته الأخيرة إلى دبي للتصفيات النهائية قام والده بإعطائه هدية ترجو له "الحظ السعيد" تعبيراً على حضور الرضا. وللأمانة إن شباب هذا الفريق يروّج لقيم إنسانية وإيجابية نبيلة.
لا ندري.. لربما مع الرعاية يتحوّل شباب (وكر العصفور) إلى أكبر من يغني للإنسانية ويدعو إلى التقارب بين الشعوب هو الآخر.. ولربما نرى (كلاش) ورهطه رمزا غنائياً في دعم المشاعر والوحدة الوطنية، وفي تجسيد الأخوّة وإزالة الفوارق النفسية الموهومة بين أبناء القبائل وأبناء العوائل. فكما أن الشر ظاهر، فإن الخير أيضا في شبابنا.. واجبنا أن ننتبه ونرعى ونُقنن ونقود النموذج.. ولكن -قبلها- أن نتسامح ونتنازل عن بعض قناعاتنا المسبقة.
ومعظم النار مِن مستصغر الشررِ بداية القول.. إن هذا المقال يقترح حواراً عاماً أرجو أن ينخرط فيه علماء وباحثو الاجتماع، والقيادات التربوية، ودعاة الدين الإنسانيون، والمستثمرون في الإعلام، والمتنفذون الرسميون في وضع الأهداف التعليمية والإعلامية والثقافية، وكافة الآباء والأمهات، وكل القطاعات المشتغلة بالشأن العام في البلد، وكل غيور على شباب ومقدرات الوطن وثوابت الهوية الإسلامية والوحدة الوطنية.. ومعهم جميعاً، أقراني الشباب.
أثار المقطع الغنائي الأخير، الذي تتداوله مواقع الإنترنت وتقنيات البلوتوث، والصادر بطريقة موسيقى "الراب" عن مجموعة شباب سعوديين يرمزون إلى أنفسهم بـ(وكر العصفور)، وحمل في كلماته سيلاً من الشتائم والقذاعات ضد شعوب شقيقة بشكل يندى له الجبين، موجة غضب عارمة، لحقتها ردود غنائية - إلكترونية مثيلة نالت هي الأخرى - للأسف - من شعبنا السعودي الكريم.
صحيح أن الروابط والصلات الحضارية والتاريخية والثقافية والشعبية بين الشعوب العربية أصلب وأمتن من أن تخدشها بضعة أغاني صبيانية، ولكن قيل إن معظم النار من مستصغر الشرر، خصوصاً أن القضية لا تقف عند أطراف ذلك التراشق اللفظي في تلك الحادثة بعينها، بل إنها تتجاوزها إلى ما هو أعمق غوراً.
حين أجريت تحقيقاً صحفياً يتقصى خلفية هؤلاء الشباب محاولة في فهم دوافع تجرئهم، خرجت بجملة من الحقائق المؤلمة. فجأة انفتحت أمامي بوابة ما كان مجهولاً ومستغلقاً من مشهد لثقافة هامشية مكتملة الأطر، ممن يطلقون على أنفسهم بشباب "الراب" أو "الهيب هوب" السعودي - وهو مشهد له رموزه وفرقه وبروتوكولاته ومناسباته.. وأيضا له شوارده وعداواته.. كما له إعلامه وقنواته في التعبير والعرض والاستعراض أما على مواقع التحميل بالإنترنت كاليوتيوب أو خلال حفلات منبرية خاصة تقام في مدينة جدة، وأخيراً باتت له برامجه الرسمية كما حدث مع قناة (إم تي في-العربية) عبر برنامج (هيب هوبنا) الذي استثمرته الفرق المحلية للبروز والمنافسة.
و"الراب" لمن لا يعلم هو نمط غنائي ينتظم مؤدوه جملاً ذات قافية لفظية شبيهة، يؤدَى بطريقة سريعة(سويت فاهم يارمة)، برز تاريخياً لدى المجموعات العرقية السمراء المضطهدة في أمريكا، ثم صار، مع موجة العولمة الثقافية، نمطاً ثقافياً استهلاكياً عاماً.
فهمت أن (وكر العصفور) هم أحد أعلام المشهد في تكونه من مجموعة من شباب العوائل الحضرية يتزعمهم رأفت وهشام، فيما أن ألدّ خصومهم هم فريق (شباب الغربية) (اسمهم عيال الغربية يااهبل)بقيادة شخص يرمز إلى نفسه باسم (كلاش) وهو صاحب الشعار الشهير "غامد والقلب جامد"، فيما يُعرف رصيفه باسم (عبادي) وغالبية هذا الفريق من أبناء قبائل جبال الحجاز النازح جيل آبائهم إلى المدينة.
وأصل الخصومة بدأ حين تجرأ (كلاش) بمقطع (راب) تطاول فيه على أبناء المدينة هازئاً بأنسابهم وأنماطهم الاجتماعية، فرد عليه فريق (وكر العصفور) بشتائم شعبوية مثيلة تنتقص من فئته الاجتماعية وتنظر إليها نظرة دونية!.. على أن تلك العداوة ذات الجذر النفسي (والتصورات المغالطة بطبيعة الحال) قد استمرت سجالاً، حتى صار (كلاش) يجرد خصومه من أصلانتيهم الوطنية كونهم أبناء عوائل لا قبائل، فبات ينعتهم - كما في عاميتنا المغلوطة - بأصحاب أصول غير سعودية.. على أن "عصافير الوكر" تلقفوا ذلك الاستفزاز بضيق فردوا بمقطع "راب" يحتفي بالمنتخب السعودي الكروي يستعلنون فيه أصلانية هويتهم الوطنية أولاً، ومن ثَم، بأغنية مقذعة في حق من وُصموا بالانتماء لهم، لربما تبرءاً من الدعوى المزعومة!.. وهي ذات الأغنية/القضية التي نبّهت على وجود كل هذا العالم السفلي.
والواقع أن أغلب جولات تلك السجالات الغنائية موثقة على موقع اليوتوب، بكل سقطاتها وشتائمها وعنفها اللفظي - وسفالات التعليقات المكتوبة عليها - وفي تجرئها على كافة الروابط الأسرية والأخلاقية، وفي مسها الوحدة الوطنية والوحدة الثقافية وتعديها على قضية الذوق العام والألفاظ الحميدة. وبقدر ما وفرت الوسائط المعرفية الحديثة، فرصا شائعة لأطراف الثقافة الشعبية والهامشية بالتعبير وإبراز المكبوت الاجتماعي والثقافي، بقدر ما أفسحت المجال واسعاً لاستحكامات الفوضى وأمارات الانحطاط.
إنه زمن الفوضى الكاسحة.. الذي تتوارى فيه معايير الفضيلة والمروؤة وتذوب فيه أية وحدة ثقافية وتنحل معه أية رابطة جمعية، وتخبو فيه الحساسية الأخلاقية والجمالية إلى حد الفناء، بل وتفقد فيه الحقائق العلمية سلطتها القيمية إزاء المد الهامشي والشعبوي المغالط والردئ.
إن الأمر شديد الخطورة.. هذه ثقافة صاعدة لا تغني للحب وللحياة أو للوله والشوق وباقي أحاسيس الرومانسية الإنسانية.. بل إنها تعبر عن خطاب يتباهى بالتمرد القيمي وبالرذيلة، ويدعو في تمظهراته القلقة إلى العنف والقطيعة الفئوية أو الطبقية في تعزيزه من شأن القيم التجزيئية والتشرذمية.. إنه خطاب يصدر عن مركبات نقص نفسية وترسبات اجتماعية مغلوطة لا تذعن لأية مرجعية أو ضوابط فنية أو أخلاقية أو ثقافية، فتبدو متفلتة في جوهرها وتجلياتها.
وما الحل من هُنا ؟.. إنه لم يعد من المقبول تجاهل تلك الظواهر الاجتماعية الصاعدة، ولم يعد من اللائق إرجاء إخضاعها للعلمي والمعرفي. بالطبع سيجرّم الوعي التربوي والاجتماعي التقليدي تلك الممارسات المَرَضِية، ناهيك عن الخطاب الوعظي السائد الذي سيعد أؤلئك الشباب في عداد المارقين-المستلبين الخ.. ولن تخرج حلول الأطراف الرسمية على ضرورة إطلاق القبضة الحديدية على محركات هذه الثقافة الناشئة.. ولكن فلنقولها بصدق، إن كل ذلك لم يعد يجدي.
إن ما لاحظته مثلاً أن هذا الشباب، موهوب ويملك مقدمات الإبداع والنبوغ الفني، ولكنه في أغلب الأحيان لا يجد دعماً وقنوات رسمية يفرغ فيها مكنون ذاته، فيلجأ لمثل هذه الأنماط البديلة القلقة. وفي اعتقادي أن الحل الملائم، يكمن في إنشاء مؤسسة إعلامية كبرى ترعى المواهب الفنية وتصقلها بما يثري المجتمع والفن. مشروع استثماري ضخم يفتح آفاقاً للشباب المبدع في مجالات فنية عدة، تكون له ماكينته الإعلامية الضخمة من إنتاج وتوزيع وتسويق وعرض تلفزيوني وباقي عناصر الرعاية الفنية.
إن انخراط الشباب ضمن مظلة مؤسسية، يمنحهم الاعتراف ويمدهم بالخبرات والمعارف الملائمة ويصقل نماذجهم لتكون أكثر طليعية وملاءمة، وحتماً، سيعمل على تقنين مسالكهم وتصوراتهم وأعمالهم الفنية.
إن لذلك شواهد داعمة.. فصاحبنا (كلاش) له فيديو على اليوتوب تحت عنوان (حفلة جدة)، ويظهر فيه على المسرح أمام حشد جماهيري عام، بدا فيه أكثر تلطفاً في انتقاء الألفاظ، وفي التعبير عن مضمون إيجابي يحتفي بالانتماء لمدينة جدة واصفاً شبابها بأهل المروؤات. بل إنه افتتح وصلته مازحاً: "بدون شتائم.. اليوم" !.. لقد أجبرته فرصة الأداء في مكان عام على احترام النموذج الثقافي إلى حد ما.
وإن كانت قناة (ام تي في-العربية) الجديدة قد أفصحت عن نيات لتبني ذلك الدور.. فبرنامج (هب هوبنا) الذي ينتقي المواهب المحلية في البلدان العربية لقي صدىً وتجاوباً من لدن الشباب. من مقر القناة في منطقة القوز بدبي، أخبرتني ذات مرة رشا الإمام مديرة الإنتاج في القناة، "أن الأمر ليس خافياً أننا نستهدف الشباب والسوق السعودي في المقام الأول"، ورشا بالمناسبة مُنتجَة سعودية من مدينة جدة. بل إن عددا لا بأس به من منسوبي القناة العاملين في مقرها الرئيس هم من الشباب والفتيات السعوديين، بدءاً من مدير التسويق، إلى مصممي الجرافكس ومقدمي البرامج.
وفي تقرير الصحفية فايزة أمبا بالواشنطن بوست (راجع عدد 22 فبراير 2008) عن قصة ما أسمته الولادة المتعسرة للهب هوب السعودي أفردت فيه آراء فريق (Dark2Men) السعودي الفائز في مسابقة برنامج (هب هوبنا). يقول هاني زين، 27 سنة أحد أعضاء الفريق، إنهم أخيراً، وبعد سنوات من البحث عن الاعتراف الاجتماعي والمؤسساتي، "أبصروا النور".
أعتقد أنه آن الأوان إلى أن نتسامح إزاء مظاهر اجتماعية كانت مستهجنة حتى وقت سابق قريب، بغية تقنينها وضبطها أخلاقياً وجمالياً، هذا كي لا يكتسحنا الردئ والناكر والمغالط والمنفلت من أي ضابط. أن يمارس الشباب أنشطتهم الغنائية والفنية "في النور" وأمام أعيننا خير من طمأنينة التجاهل الزائفة، التي لن تدفعهم سوى للتسرب إلى مخالب عالم سفلي يغيب فيه أي ضابط أو أي مرجع.
لقد كنت في السابق ضد مثل هذا المشروع الإعلامي الاستلابي، كونه يحوّل عقول الشباب إلى عقول أداتية مبسّطة غير نقدية.. ولكني مع بروز عينات (كلاش) و(وكر العصفور) أجد أن الحاجة تدعو ملياً إلى الرعاية المؤسساتية القادرة على بلورة النموذج الساعي لإنتاج أعمال ايجابية وجمالية ووجدانية - تتقصى التوازن في الطرح كأضعف الإيمان.
سيجد البعض ثقلاً بالغاً في تقبل هذا العلاج.. ولكن ألا يستحيل الشفاء غالباً دون جرعة دواء تحتوي على مقدار مقنن من السموم؟! إن العبرة بالغايات النبيلة لا بالتركيبة الظاهرة. في تقرير الواشنطن بوست يحكي ثامر فرحان عن استياء آبائهم أول مرة عند ظهورهم وهم يغنون "الراب"على شاشة التلفزيون، وكيف (فركّش) أهل خطيبته خطوبته بعد "عار" ظهوره الرسمي على الشاشة، ولكن قبل أن يقوم برحلته الأخيرة إلى دبي للتصفيات النهائية قام والده بإعطائه هدية ترجو له "الحظ السعيد" تعبيراً على حضور الرضا. وللأمانة إن شباب هذا الفريق يروّج لقيم إنسانية وإيجابية نبيلة.
لا ندري.. لربما مع الرعاية يتحوّل شباب (وكر العصفور) إلى أكبر من يغني للإنسانية ويدعو إلى التقارب بين الشعوب هو الآخر.. ولربما نرى (كلاش) ورهطه رمزا غنائياً في دعم المشاعر والوحدة الوطنية، وفي تجسيد الأخوّة وإزالة الفوارق النفسية الموهومة بين أبناء القبائل وأبناء العوائل. فكما أن الشر ظاهر، فإن الخير أيضا في شبابنا.. واجبنا أن ننتبه ونرعى ونُقنن ونقود النموذج.. ولكن -قبلها- أن نتسامح ونتنازل عن بعض قناعاتنا المسبقة.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى